الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: خزانة الأدب وغاية الأرب ***
ومن هذه القصيدة في وصف امرأة، روى صاحب الأغاني بسنده إلى الهيثم بن عدي، عن حمادٍ الراوية، قال: دخلت على الوليد بن يزيد وهو مصطبحٌ، وبين يديه معبدٌ، ومالك، وابن عائشة، وأبو كامل، وحكمٌ الوادي، وعمر الوادي، يغنونه، وعلى رأسه وصيفةٌ تسقيه، لم أر مثلها تماماً وكمالاً وجمالاً، فقال لي: يا حماد، إني أمرت هؤلاء أن يغنوا صوتاً يوافق صفة هذه الوصفية، وجعلتها لمن وافق صفتها نحلةً، فما أتاني واحدٌ منهم بشيء، فأنشدني أنت ما يوافق صفتها، وهي لك. فأنشدته قول ربيعة ابن مقروم الضبي: شماء واضحة العوارض طفلةٌ *** كالبدر من خلل السحاب المنجلي وكأن فاهاً بعد ما طرق الكرى *** كأسٌ تصفق بالرحيق السلسل لو أنها عرضت لأشمط راهبٍ *** في رأسٍ مشرفة الذرى متبتل لصبا لبهجتها وطيب حديثه *** ولهم من ناموسه بتنزل فقال الوليد: أصبت وصفها فاخترها، وألف دينارٍ. فاختر الألف الدينار. وهذه القصيدة من فاخر الشعر، وجيده. فمن مختارها ونادرها قوله: بل إن تري شمطاً تفرع لمتي *** وحنى قناتي وارتقى في مسحلي ودلفت من كبرٍ كأني خاتلٌ *** قنصاً ومن يدبب لصيدٍ يختل ولقد رأى حسن القناة قويمه *** كالنصل أخلصه جلاء الصيقل وربيعة هو ابن مقروم بن قيس بن جابر بن خالد بن عمرو بن غيظ بن السيد ابن مالك بن بكر بن سعد بن ضبة بن أد بن طابخة بن إلياس بن مضر بن نزار. وهو شاعرٌ مخضرم أدرك الجاهلية والإسلام، وكان ممن أصفق عليه كسرى ثم عاش في الإسلام زماناً. كذا في الأغاني. وزاد على هذا ابن الأنباري في شرح المفضليات: وهو مسلمٌ وشهد القادسية. وزاد ابن قتيبة في كتاب الشعراء: شهد القادسية وجلولاء. وهو من شعراء مضر المعدودين. وقد ذكره ابن حجر في قسم المخضرمين من الإصابة، ونقل عن المرزباني أنه قال: كان ربيعة بن مقروم أحد شعراء مضر في الجاهلية والإسلام، ثم أسلم وشهد القادسية وغيرها من الفتوح، وعاش مائة سنة. وأما البيتان الأخيران فهما من قصيدة جيدة أيضاً لسعية بن عريض اليهودي الخيبري، وهو أخو السموءل بن عريض بن عادياء، الذي يضرب به المثل في الوفاء. وأول القصيدة: السريع لباب يا أخت بني مالكٍ *** لا تشتري العاجل بالآجل لباب هل عندك من نائل *** لعاشق ذي حاجةٍ سائل عللته منك بما لم ينل *** يا ربما عللت بالباطل لباب داويني ولا تقتلي *** قد فضل الشافي على القاتل إن تسألي بي فاسألي خابر *** فالعلم قد يلفى لدى السائل ينبيك من كان بنا عالم *** عنا وما العالم كالجاهل إنا إذا جارت دواعي الهوى *** وأنصت السامع للقائل واعتلج القوم بألبابهم *** في المنطق الفائل والفاصل لا نجعل الباطل حقاً ول *** نلط دون الحق بالباطل تخاف أن تسفه أحلامن *** فنخمل الدهر مع الخامل روى صاحب الأغاني بسنده إلى العتبي، قال: كان معاوية يتمثل كثيراً إذا اجتمع الناس في مجلسه بهذا الشعر: إنا إذا مالت دواعي الهوى الأبيات الأربعة. روى أيضاً بسنده إلى يوسف بن الماجشون، قال: كان عبد الملك بن مروان إذا جلس للقضاء بين الناس، أقام وصيفاً على رأسه ينشده: إنا إذا مالت دواعي الهوى *** وأنصت السامع للقائل واصطرع القوم بألبابهم *** نقضي بحكمٍ فاصلٍ عادل مع البيتين الآخرين، ثم يجتهد عبد الملك في الحق بين الخمصين. وأنشد بعده: الوافر يرجي المرء ما لا أن يلاقي *** وتعرض دون أدناه الخطوب على أن الخليل قال: أصل لن: لا أن، كما جاءت في البيت، على أصلها، بدليل أن المعنى فيهما واحد، فحذفت الهمزة تخفيفاً لكثرة الاستعمال، كما حذفت من قولهم: ويلمه، والأصل ويل أمه، فلما حذفت الهمزة التقى ساكنان: ألف لا ونون أن، فحذفت الألف لدفع التقاء الساكنين، فصار: لن. وهذا مذهب الكسائي أيضاً: ورده سيبويه بما ذكره الشارح المحقق. والمشهور في رواية البيت: يرجي المرء ما إن لا يلاقي بتقديم إن المكسورة الهمزة على لا، وهي زائدة. وبه استشهد صاحب الكشاف، والقاضي البيضاوي عند تفسير قوله تعالى: {ولقد مكناهم في ما إن مكناكم فيه . على أن إن في الآية صلة، كما في البيت. ومثله لابن هشام في المغني، قال: وقد تزاد إن بعد ما الموصولة الاسمية. وأنشد البيت. ولم يذكر الزمخشري في المفصل زيادة إن هذه إلا بعد ما النافية ثم قال: وقد يقال: انتظرني ما إن جلس القاضي، أي: مدة جلوسه. وصرح ابن الحاجب بقتلها بعدها. وهذه الرواية هي رواية أبي زيد وابن الأعرابي في نوادرهما، وأنشداه بين بيتين، والأصل: فإن أمسك فإن العيش حلوٌ *** إلي كأنه عسلٌ مشوب يرجي العبد ما أن يراه *** وتعرض دون أدناه الخطوب وما يدري الحريص علام يلقي *** شراشره أيخطىء أم يصيب قال أبو زيد: قوله: إلي في معنى عندي. والشراشر: الثقل ثقل النفس. انتهى. وقال أبو الحسن الأخفش في شرح نوادر أبي زيد، وروى أبو حاتم: ما لا إن يلاقي بتأخير إن المكسورة الهمزة. ورواية: ما إن لا يلاقي بتقديم إن المكسورة غلط، والصواب: ما أن لا يلاقي، بفتحها، وهي زائدة، تزاد في الإيجاب مفتوحة، وفي النفي مكسورة. تقول: لما أن جاءني زيدٌ أعطيته، قال الله تعالى: {فلما أن جاء البشير . وتقول في النفي: ما زيد منطلقاً، فإذا زدت إن قلت: ما إن زيد منطلق، فإن كافةٌ لما عن العمل. ونظير هذا قولك: إن زيداً منطلق، ثم تقول: إنما زيد منطلق، فكفت ما الزائدة إن عن العمل كما كفت إن ما النافية. وهذا تمثيل الخليل. فلما قال: ما أن لا يلاقي فنظر إلى ما، الذي روى هذه الرواية، ظنها النافية. وهذه بمعنى الذي فلا تكون أن بعدها إلا مفتوحة. ورواية أبي حاتم: ما لا أن يلاقي صحيحة، لأن لا في النفي بمنزلة ما، وغن كانت إن لا تكاد تزاد بعد لا. انتهى. وهذا خلاف ما نقله الشارح المحقق عن الخليل، وهو المخطىء في النقل والتخطئة. ودعواه أن إن المكسورة، لا تزاد بعد ما الموصولة مردودة فإنها تزاد بعد ما المصدرية وغيرها أيضاً. قال ابن عصفور في كتاب الضرائر: ومن زيادة إن المكسورة الهمزة في الضرورة قول الشاعر، أنشده سيبويه: الطويل ورج الفتى للخير ما إن رأيته *** على السن خيراً لا يزال يزيد فزاد إن بعد ما المصدرية، وليست بنافيةٍ، تشبيهاً لها بما النافية. ألا ترى أن المعنى: ورج الفتى للخير مدة رؤيتك إياه، لا يزال يزيد خيراً على السن. لكن لما كان لفظها كلفظ ما النافية زادها بعدها، كما تزاد بعد ما النافية، في نحو قولك: ما إن قام زيد، وقول الآخر: أنشده أبو زيد: يرجي المرء ما إن لا يلاقي ....... البيت فزاد إن بعد ما، وهي اسم موصول، لشبهها باللفظ بما النافية، وقول النابغة في إحدى الروايتين: البسيط إلا الأواري لا إن ما أبينه ....... البيت فزاد إن بعد لا لشبهها بما، من حيث كانتا للنفي، وزعم الفراء أن لا، وإن، وما، حروف نفي، وأن النابغة جمع بينها على طريق التأكيد. انتهى. وقال ابن هشام في المغني: وقد تزاد بعد ما الموصولة الاسمية وبعد ما المصدرية، وأورد البيتين المتقدمين، ثم قال: وبعد ألا الاستفتاحية: الطويل ألا إن سرى ليلي فبت كئيب *** أحاذر أن تنأى النوى بغضوبا وقبل مدة الإنكار، سمع سيبويه رجلاً يقال له: أتخرج إن أخصبت البادية؟ فقال: أنا إنيه! منكراً أن يكون رأيه على غير ذلك. انتهى. وقوله: فإن أمسك فإن العيش حلوٌ إلخ، أمسك: مضارع أمسك. قال صاحب المصباح: أمسكته بيدي إمساكاً، قبضته باليد. وأمسكت عن الأمر: كففت عنه. وأمسك الله الغيث: حبسه ومنع نزوله. انتهى. ولم يذكر الشاعر صلة أمسك، فمعناه متوقف على ما قبله، وقوله: مشوب، أي: مخلوط بالماء. قال صاحب المصباح: شابه شوباً: خلطه، مثل شوب اللبن بالماء، فهو مشوب. والعرب تسمي العسل شوباً، لأنه عندهم مزاجٌ للأشربة. وقوله: يرجي المرء إلخ، روى بدل المرء العبد وهو عبد الخلقة. ويرجي بمعنى يأمل، وهو مبالغة رجاه يرجوه رجواً على فعول، والاسم الرجاء بالمد. ورجيته أرجيه من باب رمى، لغة. كذا في المصباح. وقد حذف العائد إلى ما الموصولة من قوله: لا يلاقي والأصل لا يلاقيه، وروى بدله: لا يراه، فالهاء هي العائد. وتعرض إما من عرضت له بسوء، أي: تعرضت، من باب ضرب، وباب تعب لغة. وفي النهي: لا تعرض له بكسر الراء وفتحها، أي: لا تعترض له فتمنعه باعتراضك أن يبلغ مراده، لأنه يقال: سرت فعرض لي في الطريق عارضٌ من جبل ونحوه، أي: مانع يمنع من المضي. واعترض لي بمعناه. ومنه اعتراضات الفقهاء، لأنها تمنع من التسمك بالدليل. وإما من عرض له أمرٌ، إذا ظهر، من باب ضرب أيضاً. ويحتمل أن تكون تعرض بضم الراء، من عرض الشيء بالضم عرضاً كعنب وعراضةً بالفتح: اتسع عرضه وتباعد حاشيته، فهو عريض. ودون هنا: بمعنى أمام. وأدناه: أقربه، أفعل تفضيل من الدنو، وهو القرب. والخطوب: جمع خطب. قال صاحب المصباح: والخطب: الأمر الشديد ينزل، والجمع خطوب، مثل فلس وفلوس. انتهى. وقيل الخطب هو الشأن والأمر، عظم وصغر. وقال الدماميني في الحاشية الهندية: هو سبب الأمر، يقال: ما خطبك؟ أي: ما سبب أمرك الذي أنت عليه. وغلب استعمال الخطوب في الأمور الشاقة الصعبة. انتهى. وهذه الأبيات الثلاثة نسبها أبو زيد إلى جابر بن رألان الطائي، قال: وهو شاعرٌ جاهلي. وكذا نسبها ابن الأعرابي في نوادره ثم قال: ويقال إنها لإياس ابن الأرت. ورألان بالراء المهملة بعدها همزة ساكنة. وإياس بكسر الهمزة بعدها مثناة تحتية. والأرت بالمثناة، قال صاحب الصحاح: الرتة بالضم: العجمة في الكلام. ورجل أرت بين الرتت، وفي لسانه رتة، وأرته الله. وأنشد بعده: البسيط إذن لقام بنصري معشرٌ خشنٌ على أن إذن تدخل في الماضي كما في البيت. والمصراع من أبيات في أول الحماسة، وقبله: لو كنت من مازنٍ لم تستبح إبلي *** بنو اللقيطة من ذهل بن شيبانا إذن لقام بنصري معشرٌ خشنٌ *** عند الحفيظة إن ذو لوثةٍ لانا قال الشارح المحقق بعد أسطر: إن إذن متضمنة لمعنى الشرط على ما حققه. وإذا كانت بمعنى الشرط الماضي، جاز إجراؤها مجرى لو في إدخال اللام في جوابها كما في البيت. فجملة: لقام إلخ، جواب إذن، كأنه قيل: ولو استباحوا إبلي مع كوني من بني مازن لقام بنصري إلخ. وهذا مختار الشارح المحقق ومذهبه في إذن. وفيه ردٌّ على الإمام المرزوقي في زعمه أن قوله: لقام جواب قسمٍ مقدر. قال: اللام في لقام جواب يمين مضمر، والتقدير: إذن والله لقام بنصري. وفائدة إذن هو أن هذا البيت الثاني أخرج مخرج جواب قائلٍ قال له: ولو استباحوا ماذا كان يفعل بنو مازنٍ؟ فقال: إذن لقام بنصري إلخ. وإذا كان كذلك فهذا البيت جوابٌ لهذا السائل، وجزاءٌ على فعل المستبيح. انتهى. وفيه ردٌّ أيضاً لما قاله ابن جني في إعراب الحماسة، قال: قوله: إذن لقام إلخ هو جواب قوله: لو كنت من مازن. فإن قلت: فقد أجاب لو هذه بقوله: لم تستبح إبلي. قيل: قوله: إذن لقام، إلخ بدل من قوله: لم تستبح إبلي، وهذا كقولك: لو زرتني لأكرمتك، إذن لم يضع عندي حق زيارتك. انتهى. وتبعه جماعة، منهم ابن يعيش في شرح المفصل، قال: فإذا جوابٌ لقوله: لو كنت من مازن لم تستبح إبلي، على سبيل البدل من قوله لم تستبح إبلي، وجزاءٌ على فعل المستبيح. انتهى. ومنهم ابن هشام في المغني، قال: الأكثر أن تكون إذن جواباً لإن، ولو، ظاهرتين ومقدرتين. فالأول كقوله: الطويل لئن عاد لي عبد العزيز بمثله *** وأمكنن منها إذن لا أقيلها وقول الحماسي: لو كنت من مازن البيتين. فقوله: إذن لقام بدل من لم تستبح، وبدل الجواب جواب. والثاني: في نحو أن يقال: آتيك، فتقول: إذن أكرمك، أي: إن أتيتني إذن أكرمك. وقال تعالى: {ما اتخذ الله من ولدٍ وما كان معه من إلهٍ إذاً لذهب كل إلهٍ بما خلق ولعلا بعضهم على بعض . قال الفراء: حيث جاءت بعدها اللام فقبلها لو مقدرة، إن لم تكن ظاهرة. انتهى. وجوز الإمام المرزوقي أن تكون إذن لقام إلخ، جواباً ثانياً للو، لا على البدلية. قال: ويجوز أن تكون أيضاً إذن لقام جواب لو، كأنه أجيب بجوابين. وهذا كما تقول: لو كنت حراً لاستقبحت ما يفعله العبيد، إذن لاستحسنت ما يفعله الأحرار. انتهى. وزعم ابن الملا في شرح المغني أن هذا عين ما قاله ابن هشام وقريبٌ منه. ولا يخفى أنه قريب منه لا عينه. وجعل ابن هشام إذن لا أقليها في البيت جواباً لإن الشرطية دون القسم المقدر مخالفٌ للقاعدة، كما يأتي بيانه قريباً عند إنشاد الشارح البيت. وإن أراد تقدير إن ولو صناعةً يرد عليه أنه يمتنع النصب في المثال الذي أورده، لوقوعها حشواً، وهو قوله: آتيك، فتقول: إذن أكرمك، أي: إن أتيتني إذا أكرمك. وما نقله عن الفراء فيه تقصير كما يظهر من نص عبارته، قال في تفسيره عند قوله تعالى: {أم لهم نصيبٌ من الملك فإذاً لا يؤتون الناس نقير: وإذا رأيت في جواب إذن اللام فقد أضمرت لها لئن ويميناً، ولو. من ذلك قوله تعالى: {ما اتخذ الله من ولدٍ وما كان معه من إلهٍ إذاً لذهب كل إلهٍ بما خلق والمعنى والله أعلم: لو كان معه إله لذهب كل إلهٍ بما خلق. ومثله: وإن كادوا ليفتنونك عن الذي أوحينا إليك لتفتري علينا غيره وإذاً لاتخذوك خليلا ، ومعناه لو فعلت لاتخذوك. وكذلك قوله: كدت تركن ، ثم قال: إذاً لأذقناك معناه: لو ركنت لأذقناك. انتهى كلامه. وقوله: معشر خشن: جمع خشن وأخشن، وضمة الشين للإتباع، بمعنى الشديد. وأراد بهم بني مازن. واللوثة بالضم: الضعف. وأراد به قومه. قال ابن جني: إن قلت أين جواب قوله إن ذو لوثة لانا؟ قيل: محذوف دل عليه قوله خشن، أي: إن لان ذو لوثة، خشنوا هم ويخشنوا، ودل المفرد الذي هو خشنٌ على الجملة التي هي خشنو ويخشنوا، وذلك لمشابهة اسم الفاعل، وما يجري مجراه الجملة، بما فيه من الضمير. انتهى. والمشهور في مثل هذا أن المتقدم دليل الجواب المحذوف، فيقدر قام بنصري معشر خشن. وصنيع ابن جني أبلغ. فتأمل. والاستباحة: أخذ الشيء مباحاً للنفس. وقام: من القيام بالشيء والتكفل به. والمعشر: اسمٌ لجماعةٍ أمرهم واحد. وتقدم شرحها في شرح الأبيات بأوفى من هذا في الشاهد السادس والخمسين بعد الخمسمائة. وأنشد فيه بعده: الوافر نهيتك عن طلابك أم عمروٍ *** بعاقبةٍ وأنت إذٍ صحيح وتقدم شرحه مفصلاً في الشاهد الثامن والتسعين بعد الأربعمائة من باب الظروف. وأنشد بعده: البسيط ما إن أتيت بشيءٍ أنت تكرهه *** إذن فلا رفعت سوطي إلي يدي إذن فعاقبني ربي معاقبةً *** قرت بها عين من يأتيك بالحسد على أن إذن إذا كانت للشرط في المستقبل. جاز دخول الفاء في جزائها، كما في جزاء إن، كما في البيت، كأنه قال: إن أتيت بشيءٍ فلا رفعت. فجملة فلا رفعت إلخ، جملة دعائية وقعت جزاءً واقترنت بما يقترن به جزاء الشرط، لما في إذن من معنى الشرط. وكذا الحال في البيت الثاني. وهما من قصيدة طويلة للنابغة الذبياني، مدح بها النعمان بن المنذر، وتنصل بها عما قذفوه به، حتى خاف، وهرب منه إلى بني جفنة ملوك الشام. وهي من القصائد الاعتذاريات، ولحسنها ألحقها أبو جعفر النحاس، والخطيب التبريزي وغيرهما. بالمعلقات السبع. وتقدم شرح أبيات كثيرةٍ منها في باب الحال، وفي باب خبر كان، وفي النعت، وفي البدل، وفي أسماء الأفعال وفي غير ذلك. وقبلها: والمؤمن العائذات الطير يمسحه *** ركبان مكة بن الغيل والسند وبعدهما: هذا لأبرأ من قولٍ قذفت به *** طارت نوافذه حراً على كبدي قال ابن رشيق في العمدة: وأجل ما وقع في الاعتذار من مشهورات العرب، قصائد النابغة الثلاث: إحداها: البسيط يا دار مية بالعلياء فالسند يقول فيها: فلا لعمر الذي مسحت كعبته *** وما هريق على الأنصاب من جسد والمؤمن العائذات الطير ....إلى آخر الأبيات الثلاثة والثانية: الطويل أرسماً جديداً من سعاد تجنب يقول فيها معتذراً من مدح آل جفنة، ومحتجاً بإحسانهم إليه: الطويل حلفت فلم أترك لنفسك ريبةً *** وليس وراء الله للمرء مطلب الأبيات المشهورة. والثالثة: الطويل عفا حسمٌ من أهله فالفوارع يقول فيها بعد قسم قدمه على عادته: لكلفتني ذنب امرىءٍ وتركته *** كذي العر يكوى غيره وهو راتع انتهى. وقد شرحنا القصائد الثلاث برمتها في المواضع التي استشهد بأبياتها. وقوله: والمؤمن العائذات الطير قد شرح هو وما قبله في الشاهد السابع والأربعين بعد الثلثمائة من باب النعت. وقوله: ما إن أتيت إلخ، هذه الجملة جواب القسم الذي هو قوله: فلا لعمر الذي مسحت كعبته مع البيت الذي بعده. وما نافية وإن زيدت بعدها للتوكيد. وبه استشهد ابن هشام في المغني. وقوله: فلا رفعت سوطي إلي يدي، أراد به: شلت يدي ولم تقدر على رفع السوط. وهذا دعاءٌ على نفسه على تقدير صحة ما نسبة أعداؤه إليه. وقوله: إذن فعاقبني ربي إلخ، هذا دعاء آخر على نفسه. وجملة: قرت بها إلخ، صفة معاقبة. والمعاقبة: العذاب. وقرت العين قرة وقروراً بضمها، من باب تعب، أي: بردت سروراً. والحسد هو تمني زوال نعمة الغير. وقوله: هذا لأبرأ إلخ، أي: هذا القسم لأجل أن أتبرأ، مما اتهمت به. والنوافذ تمثيلٌ، من قولهم: جرح نافذ. أي: قالوا قولاً صار حره على كبدي، وشقيت به. وأنشد بعده: البسيط والمرء عند الرشا إن يلقها ذيب وهو عجز، وصدره: هذا سراقة للقرآن يدرسه وتقدم شرحه في الشاهد الثاني والثمانين من أوائل الكتاب. وأنشد بعده: وهو من شواهد س: الطويل ...........فإن بحبه *** أخاك مصاب القلب....... على أنه إنما جاز الفصل بالجار والمجرور بين إن واسمها لقوة شبه إن بالفعل. قال سيبويه في باب الحروف الخمسة التي تعمل فيما بعدها كعمل الفعل فيما بعده: وتقول: إن بك زيداً مأخوذ، وإن لك زيداً واقف. إلى أن قال: ومثل ذلك إن فيك زيداً لراغبٌ. قال الشاعر: فلا تلحني فيها فإن بحبه *** أخاك مصاب القلب جمٌّ بلابله كأنك أردت: إن زيداً راغب، وإن زيداً مأخوذ، ولم تذكر بك ولا فيك، فألغيتا هنا كما ألغيتا في الابتداء. انتهى. قال الأعلم: الشاهد فيه رفع مصاب على الخبر، وإلغاء المجرور، لأنه من صلة الخبر ومن تمامه، ولا يكون مستقراً للأخر ولا خبراً عنه. انتهى. وقال أبو علي في إيضاح الشعر: الظرف قد استجيز فيه من الاتساع ما لم يستجز في غيره. ألا ترى أنه قد جاء: فلا تلحني فيها....البيت. ففصل بقوله: بحبها بين إن واسمها. ولو كان مكان الظرف غيره، لم يجز ذلك. والظرف متعلق بالخبر، كأنه قال: إن أخاك مصاب القلب بحبها. وأورده أيضاً في موضعين من التذكرة القصرية قال في الأول: مسألة: إن قال قائل: لم لا يكون المحذوف في التقدير مؤخراً، كأنه قال: إن في الدار زيداً، فلا يسقط بذلك حكم ما تعلق به الظرف؟ قيل: يقبح هذا الفصل، كما: كانت زيداً الحمى تأخذ. فإن قيل: فقد قال: فإن بحبها أخاك مصاب القلب قد قيل: قد روى البغداديون هذا مصاب القلب. فذا يدلك على استكراههم الرفع، لما فيه من الفصل، فعدلوا عنه إلى النصب. ويجوز أن تقول: إن الظرف قد فصل به في أماكن، فيجوز أن يكون هذا مثلها. وقال في الموضع الثاني: مسألة: ما كان فيها أحد خيرٌ منك، فيها متعلقة بكان إذا نصبت خيراً منك، ومتعلقة بمحذوف إذا كانت مستقراً. ويجوز أن تنصبها بخيراً منك وإن تقدم عليه، لشبهه بالفعل. وليس الفصل بفيها إذا علقتها بخير منك بقبيح، لأن أبا الحسن قد أنشد في المسائل الصغيرة: فإن بحبها أخاك مصاب القلب ورواه الكوفيون: مصاب القلب. وأظنهم هربوا من الفصل، فنصبوا مخافة أن يجري مجرى: كانت زيداً الحمى تأخذ. وأتى أبو الحسن بمسائل هناك يفصل فيها بالظرف المتعلق بالخبر. انتهى. وقد فصل ابن السراج في الأصول مذهب الكوفيين في هذه المسألة، قال: إذا كان الظرف غير محل للاسم سماه الكوفيون الصفة الناقصة، وجعله البصريون لغواً ولم يجز في الخبر إلا الرفع، وذلك قولك: فيك عبد الله راغب، ومنك أخواك هاربان، وإليك قومك قاصدون، لأن منك وفيك وإليك لا تكون محلاً، ولا يتم بها الكلام. وقد أجاز الكوفيون: فيك راغباً عبد الله، شبهها الفراء بالصفة التامة لتقدم راغب على عبد الله. وذهب الكسائي إلى أن المعنى: فيك رغبةً عبد الله. واستضعفوا أن يقولوا: فيك عبد الله راغباً، وأنشدوا بيتاً جاء فيه مثل هذا منصوباً. فلا تلحني فيها فإن بحبه ....... البيت فنصب مصاب القلب على التشبيه بقولك: إن بالدار أخاك واقفاً، إلى آخر ما فصله. وقوله: فلا تلحني هو نهيٌ، أي: لا تلمني في حب هذه المرأة فقد أصيب قلبي بها واستولى عليه حبها، والعذل لا يصرفني عنها. يقال: لحيت الرجل، إذا لمته. قال صاحب الصحاح: ولحيت الرجل ألحاه لحياً، إذا لمته، فهو ملحيٌّ، ولاحيته ملاحاة ولحاءً، إذا نازعته. وفي المثل:: من لاحاك فقد عاداك . وتلاحوا، إذا تنازعوا، وأصله من لحيت العصا ألحيها لحياً إذا سلخت لحاءها وجلدها. وكذلك لحوتها ألحوها لحواً. واللحاء بالكسر والمد: قشر الشجر. وفي المثل: لا تدخل بين العصا ولحائها . كذا في الصحاح. وقال صاحب المصباح: اللحاء بالكسر والمد، والقصر لغة: ما على العود من قشره. ولحوت العود لحواً من باب قال، ولحيته لحياً من باب نفع، إذا قشرته. والمصاب: اسم مفعول من أصيب بكذا، من المصيبة، وهي الشدة النازلة. والجم بالجيم: الكثير. والبلابل: الأحزان وشغل البال، واحدها بلبال. وهو مبتدأ، وجمٌّ خبره، والجملة خبر ثانٍ لإن. وزاد العيني: وهي بدل من قوله مصاب القلب فتأمل. وقال البلابل: الوساوس، وهو جمع بلبلة وهي الوسوسة. والبيت من الأبيات الخمسين التي هي في كتاب سيبويه، ولم يعرف لها قائل والله أعلم. وأنشد بعده: الرجز لا تتركني فيهم شطير *** إني إذن أهلك وأطيرا على أن الفعل جاء منصوباً بإذن مع كونه خبراً عما قبلها، بتأويل أن الخبر هو مجموع إذن أهلك، لا أهلك وحده، فتكون إذن مصدرة. وقال الأندلسي: يجوز أن يكون خبر إن محذوفاً: أي: إني لا أحتمل. ثم ابتدأ، فقال: إذن أهلك. والوجه رفع أهلك وجعل وبمعنى إلا. أما التخريج الأول فهو للشارح المحقق. وقد رده الدماميني في الحاشية الهندية بأن مقتضاه جواز قولك: زيد إذن يقوم، بالنصب، على جعل الخبر هو المجموع، إذ الاعتماد المانع منتفٍ، إذ هو ثابت للمجموع، وصريح كلامهم يأباه. وأجيب عن الرضي بأن تخريجه إنما هو لبيان وجه ارتكاب الشذوذ في هذا المسموع، فلا يكون مقتضاه جواز النصب في كل ما سواه مما لم يتحقق فيه شذوذ. هذا كلامه. ولا يخفى أن مراد الرضي تخريجه على عملها المألوف قياساً، وهو أن لا يعتمد ما بعدها على ما قبلها، بدليل مقابلته لقول الأندلسي. وأما قول الأندلسي، وعليه اقتصر ابن هشام في المغني، فهو تخريج السيرافي. قال في شرح الكتاب: هذا البيت شاذ، ولا يحتج به، لأن قائله مجهول لا يحتج بقوله. فإن صح فإما أن يقال: إنه لغةٌ حمل فيها إذن على لن، وهي لا تلغى بحال. وتقول: خبر إن مقدر، أي: إني لا أقدر على ذلك، وجملة: إذن أهلك مستأنفة، وإذن فيها مصدرة. انتهى. وفيما قاله تخريجان آخران، فصارت التخاريج أربعة. وسلك نحوه ابن يعيش في شرح المفصل، فقال: البيت شاذ. وإن صحت الرواية، فهو محمول على أن يكون الخبر محذوفاً. وساغ حذف الخبر لدلالة ما بعده عليه وابتداء إذن بعد تمام المبتدأ بخبره. ويكون شبه إذن ها هنا بلن فلم يلغها، لأنهما جميعاً من نواصب الأفعال المستقبلة. وتشبه إذن من عوامل الأفعال بأفعال الشك واليقين، لأنها أيضاً تعمل وتلغى، لأن أفعال الشك إذا تأخرت وتوسطت يجوز أن تعمل. وإذن إذا توسطت بين جزأي كلامٍ أحدهما محتاجٌ إلى الآخر لم يجز أن تعمل، لأنها حرف، والحرف أضعف في العمل من الأفعال. انتهى. وقد نقل ابن الحاجب تخريجاً خامساً في شرح المفصل، قال: وقد أول: إني إذن أهلك، على معنى: إني أقول. والقول يحذف كثيراً. وقد ناقشه الإمام الحديثي في شرح الكافية، بأنه إنما يتخلص عنه به إذا كان الموضع للحكاية فقط. وفيه نظر. وألا يكون حينئذ معتمداً على أقول. وتوضيحه: أن المحكوم عليه بأنه خبر، وأنه في موضع رفع حينئذ إما الحكاية فقط، أعني جملة أقول، وبه يتحقق الخلاص عن هذه الورطة. والحكاية والمحكي، أعني مجموع أقول إذن أهلك. لا سبيل إلى الأول لاقتضائه قطع كلٍّ من القول والمقول عن صاحبه، واستئناف ما حقه أن لا يستأنف. ولا إلى الثاني لبقاء الإشكال لتحقق النصب مع الاعتماد، فإن أهلك معتمدٌ على أقول، لكونه جزء معموله الذي هو إذن أهلك. وأجاب عنه ابن الحنبلي فيما كتبه على المغني، كما نقله عنه تلميذه ابن الملا، بأنا لا نسلم أن جزء المعتمد معتمد. ولئن سلمناه فلا نسلم أن كل معمولٍ لشيء يكون معتمداً عليه، فهو قد حصروا صور الاعتماد في ثلاث صور ليس إلا، بحكم الاستقراء، فدل ذلك على أن ما عداها لا يتحقق فيه اعتماد، وإن تحققت معموليته بوجه ما. ثم قال: ولعل ابن الحاجب قدر أقول ليكون إذن أهلك وأطير مقولاً، وقعت فيه إذن مصدرة وإن توهم أنها بتقدير أقول غير مصدرة. ألا ترى أن القائل إذا قاله بعد، كما سبق به الرعد، أظهرت صدارتها فيه. انتهى. وهذا بحثٌ جيد، إلا أنه يرد على تخريجه بإضمار القول ما ورد على تخريج الشارح المحقق وقول الأندلسي: والوجه رفع أهلك. وقال الحديثي: الحق رفع أهلك، وجعل وبمعنى إلا أن، كما في قولك: لألزمنك وتقضيني حقي، أي: إلا أن تقضيني حقي. أراد أن الرفع فيه وفي مثله هو القياس، جرياً على القاعدة. وتعسف ابن الملا في قوله: إن أراد أنه الوجه والحق في مثل هذا التركيب إذا صدر من متكلم فله وجه، ولكن غير نافع لنا بوجه. وإن أراد أنه الوجه والحق في قول هذا الشاعر فممنوع. فإنه كيف يسلم لهما ذلك حيث ثبت أن الرواية عن القائل بنصب الفعلين. انتهى. وقال العيني: إعمال إذن في البيت ضرورة، خلافاً للفراء. أراد بالضرورة ما هو المذهب الصحيح، وهو ما أتى في النظم دون النثر، سواءٌ كان عنه مندوحة أم لا. ولم يصب ابن الملا في قوله: هذا إنما يتجه بالنسبة إلى نصب أطير دون أهلك، فإنه إن كان ثم ضرورة، فهي قصد التوفيق بينه وبين شطيراً، حذراً من عيب الإقواء. اللهم إلا أن يدعي أن هذه الضرورة ألجأت إلى نصب أهلك، لئلا يعطف منصوبٌ على مرفوع. هذا كلامه. وأي مانع من العطف بالنصب بأن، بعد والتي بمعنى إلا، كما نقله عن الأندلسي والحديثي. هذا. وقد نقل الفراء عن العرب في تفسيره أن النصب في مثل البيت لغة، قال عند تفسير قوله تعالى: {أم لهم نصيبٌ من الملك فإذاً لا يؤتون الناس نقير: إذا وقعت إذن على يفعل وقبله اسمٌ، بطلت فلم تنصب، فقلت: أنا إذن أضربك. وإذ كانت في أول الكلام إن نصبت يفعل ورفعت، فقلت: إني إذن أوذيك. والرفع جائز. أنشدني بعض العرب: لا تتركني فيهم شطير *** إني إذن أهلك وأطيرا وقال أيضاً في تفسير سورة الأحزاب عند قوله تعالى: {وإذاً لا تمتعون: وقد تنصب العرب بإذن وهي بين الاسم وخبره في إن وحدها، فيقولون: إني إذن أضربك. قال الشاعر: لا تتركني فيهم شطير .....البيت والرفع جائز. وإنما جاز في إن ولم يجز في المبتدأ بغير إن، لأن الفعل لا يكون مقدماً في إن، وقد يكون مقدماً لو أسقطت. هذا كلامه. وأنت ترى أنه إمامٌ ثقة، وقد نقل عن أهل اللسان، فينبغي جواز النصب في الفعل الواقع خبراً لاسم إن لا غير، حسبما نقل، وحينئذ يسقط ما تكلفوا من التخريج. وأفاد الفراء أن البيت حجة يصح الاستدلال به، لقوله: أنشدني بعض العرب، فيكون جواز النصب والرفع فيه مع إن، مثل ما إذا اقترن الفعل بعاطف، في جواز الوجهين. وقد أطلق الشارح المحقق في العاطف، ولم يمثل إلا لما اقترن بالواو والفاء. وقد صرح الفراء في تعميم العاطف، قال: إذا كان في الفعل فاءٌ، وواوٌ، وثم، وأو، وحرفٌ من حروف النسق، فإن شئت كان معناها معنى الاستئناف فنصبت بها أيضاً، وإن شئت جعلت الفاء والواو إذا كانتا منها منقولتين عنها إلى غيرها. والمعنى في قوله: فإذاً لا يؤتون على: فلا يؤتون الناس نقيراً إذاً. ويدلك على ذلك أنه في المعنى، والله أعلم، جوابٌ لجزاء مضمر، كأنه قلت: ولئن كان لهم، ولم كان لهم نصيب لا يؤتون الناس إذاً نقيراً. وهي في القراءة عبد الله منصوبة. وإذا رأيت الكلام تاماً مثل قولك: هل أنت قائم، ثم قلت: فإذن أضربك، نصبت بإذن ونصبت بجواب الفاء ونويت النقل. وكذلك الأمر والنهي، يصلح في إذن وجهان: النصب بها، ونقلها. ولو شئت رفعت الفعل إذا نويت النقل، فقلت: ائته فإذن يكرمك زيد، فهو يكرمك إذن، ولا تجعلها جواباً. هذا كلامه. وقد أجاز الجزم والنصب والرفع في جواب الشرط، قال: وإذا كان قبلها جزاءٌ وهي له جوابٌ قلت: إن تأتني إذن أكرمك، وإن شئت: إذن أكرمك. فمن جزم أراد أكرمك إذن، ومن نصب نوى في إذن فاءً تكون جواباً فنصب الفعل بإذن، ومن رفع جعل إذن منقولة إلى آخر الكلام، كأنه قال: فأكرمك إذن. وهذا خلاف مذهب البصريين، وليس عندهم إلا الجزم. وقوله: لا تتركني إلخ، الترك يستعمل بمعنى التخلية، ويتعدى لمفعول واحد، وبمعنى التصيير، فيتعدى لاثنين أصلهما المبتدأ والخبر وهنا محتملٌ لكلٍّ منهما، فشطيرا على الأول حال من الياء، وعلى الثاني هو المفعول الثاني، وفيهم عليهما متعلق بالترك، وهو المفعول الثاني. وشطيراً حالٌ من ضمير الظرف، ويجوز أن يكون مفعولاً آخر مكرراً، كما قيل في قوله تعالى: {وتركهم في ظلماتٍ لا يبصرون إن في ظلمات مفعول ثان، وجملة: لا يبصرون مفعول آخر مكرر. وقال العيني: فيهم يتعلق بشطيراً، وشطيراً نصب على الحال، والتقدير: لا تتركني حال كوني شطيراً كائناً فيهم. هذا كلامه. ولا يخفى أن ذكر كائناً مع قوله متعلق بشطيراً لا وجه له. والشطير: الغريب. وأهلك بكسر اللام، والماضي بفتحها. والشعر لم ينسبه أحدٌ إلى قائله. والله أعلم. وأنشد بعده: وهو من شواهد س: البسيط ازجر حمارك لا يرتع بروضتن *** إذن يرد وقيد العير مكروب على أنه يجوز على مذهب الكسائي أن يكون لا يرتع مجزوماً بكون لا فيه للنهي، لا أنه جواب الأمر. ويرد مجزوماً لا منصوباً بكونه جواباً للنهي، كما هو مذهبه في نحو: لا تكفر تدخل النار. فيكون المعنى لا يرتع، إن يرتع يرد. وعند غيره: يرد منصوب، وإذن منقطع عما قبله مصدر، كأن المخاطب قال: لا أزجره. فأجاب بقوله: إذن يرد. أقول: يكون لا يرتع على قول الكسائي بدلاً من ازجر، وهو أوفى من الأول في تأدية المعنى المراد، كقوله: الطويل أقول له ارحل لا تقيمن عندنا وإذن تكون مؤكدة للشرط المقدر، وهو إن يرتع، ويرد جواب الشرط المقدر. وهو مجزوم بسكون مقدر، والفتحة لدفع التقاء الساكنين. ويجوز ضم الدال وكسرها أيضاً للدفع المذكور، والأصل يردد، فلما أدغم سكنت الدال الأولى، والثانية ساكنة أيضاً للجزم، فالتقى ساكنان فلنا أن تدفع التقاءهما بإحدى الحركات الثلاث. وقوله: بكونه جواباً للنهي متعلق بقوله مجزوماً. وقوله: وعند غيره يرد منصوب، أي: عند غير الكسائي يرد منصوب بإذن، فالفتحة فتحة إعراب وإذن هنا ليست متضمنة للشرط، وإنما هي متضمنة للنهي، وهو لا تزجره. وعبر التبريزي في شرحه عن هذا بأن إذن هنا على بابها، لأنها جواب كلام مقدر، لأنه قدر أن المأمور بالرد، قال: لا أرد. فأجابه بذلك، وحذفه لفهم المعنى. وهذا من غير الغالب كما قال الشارح المحقق: الغالب في إذن تضمن الشرط. وهذا الوجه هو مذهب سيبويه، قال في الكتاب: واعلم أن إذن إذا كانت بين الفعل وبين شيءٍ الفعل معتمدٌ عليه فإنها ملغاة لا تنصب البتة، كما لا تنصب أرى إذا كانت بين الفعل والاسم في قولك: كان أرى زيدٌ ذاهباً. فإذن لا تصل في ذا الموضع إلى أن تنصب، كما لا تصل أرى هنا إلى أن تنصب. فهذا تفسير الخليل. وذلك قولك: أنا إذن آتيك، فهي هنا بمنزلة أرى حيث لا تكون إلا ملغاة. ومن ذلك: إن تأتني إذن آتك، لأن الفعل ها هنا معتمدٌ على ما قبل إذن. وليس هذا كقول ابن عنمة الضبي: اردد حمارك لا تنزع سويته *** إذن يرد وقيد العير مكروب من قبل أن هذا منقطع من الكلام الأول وليس معتمداً على ما قبله لأن ما قبله مستغن. انتهى. وأجاز الأعلم هنا رفعٌ يرد، قال: الشاهد فيه نصب ما بعد إذن لأنها مبتدأة. والرفع جائزٌ على إلغائها وتقدير الفعل واقعاً للحال، لأن حروف النصب لا تعمل إلا فيما خلص للاستقبال. والبيت من أبياتٍ ستةٍ لعبد الله بن عنمة، أوردها المفضل في المفضليات، وأبو تمام في الحماسة، وهي: ما إن ترى السيد زيداً في نفوسهم *** كما تراه بنو كوز ومرهوب إن يسألوا الحق نعط الحق سائله *** والدرع محقبةٌ والسيف مقروب وإن أبيتم فإنا معشرٌ أنفٌ *** لا نطعم الخسف إن السم مشروب فازجر حمارك لا يرتع ....... البيت إن تدع زيدٌ بني ذهل لمغضبةٍ *** نغضب لزرعة إن الفضل محسوب ولا يكونن كمجرى داحسٍ لكم *** في غطفان غداة الشعب عرقوب قوله: ما إن ترى السيد إلخ، إن زائدة مؤكدة لما النافية. والسيد بالكسر، وزيد، وكوز، ومرهوب، كلٌّ من الأربعة: أبو حيٍّ من بني ضبة. وزيد وكوز أخوان، ابنا كعب بن بجالة بن ذهل بن مالك بن بكر بن سعد بن ضبة بن أد ابن طابخة. والسيد هو أخو ذهل المذكور. ومرهوب هو ابن عبيد بن هاجر بن كعب بن بجالة المذكور. وقد روى الضبي في المفضليات كرز، بالراء المهملة بدل الواو. قال المرزوقي: يقول: بنو السيد لا يقسمون لزيد بن التعظيم، ولا يوجبون له في نفوسهم من الحرمة والتبجيل، ما يوجبه ويقسمه بنو كوز ومرهوب. والضمير على هذا في نفوسهم للسيد. ولا يمتنع أن يكون لزيد، لأنه قبيلة. وهذا كما يقال: لك في نفسك حقٌّ ومنزلة، كأن زيداً، كان له، إذا رجع نفسه من التوجه والإدلال والتخصيص والاعتزاز في بني كوز ومرهوب، ما لا يكاد يجده في بني السيد. وقوله: إن تسألوا الحق إلخ، قال ابن الأنباري: قال الضبي: قوله محقبة، أي: تكون الدرع في حقيبة البعير. وكذلك كانت العرب تفعل بالدروع إذا هموا بالقتال، استخرجوا الدروع من الحقائب فلبسوها. وقوله: مقروب، أي: في قرابه. يقال: قربت السيف: أدخلته في قرابه، وهو غمده. يقول: إن أردتم الصلح أجبناكم، والسلاح مستور، وإن أبيتم أظهرناه لكم. وقوله: وإن أبيتم إلخ، الأنف، بضمتين: جمع أنوف، وهو الذي به أنفةٌ ونخوة. والخسف: حمل الإنسان على ما يكرهه، ثم استعمل في معنى الذل. يقال: سمته الخسف، إذا حملته على الهوان. وأصل الخسف أن تبيت الدابة على غير علف. يقول: إن اقتصرتم على أخذ حقكم أعطيناكموه والحرب موضوعةٌ بيننا وبينكم، وإن طلبتم أكثر منه أبينا أن نعطيكم إياه. واستعار الطعم والشرب لتجرع الغصة وتوطين النفس على المشقة عند إزالة المذلة ورد الكريهة. قال المرزوقي: لا نطعم الخسف، وإن شربنا السم. وقال أبو محمد الأعرابي في شرحه: لا نطعم: لا نذوق. وطعمت الشيء: ذقته، وطعمته: أكلته أيضاً. والمعنى وإن أبيتم الحق فإنا لا نقر بالخسف، أي: الهوان، ونؤثر عليه شرب السم، كما قال: الطويل ويركب حد السيف من أن تضيمه وقال التبريزي: معناه نحن نأبى الذل، وإن كان غيرنا يقر بما هو أبلغ في الهوان. ويريد: إن السم مشروبٌ، وإن احتجنا إلى شربه شربناه ولم نقبل ضيماً، لأن الإنسان يصبر على شرب السم، ويكون ذلك أيسر عليه من صبره على الضيم. وقال أبو عبد الله النمري في شرحه: يريد السم الموت لا السم المعروف. وقوله: مشروب، أي: كل أحد يشربه ولا يعفى منه، كقولك: إن الحوض مورود، يريد به الموت أيضاً. يقول: فعلام نحمل الضيم، ومصيرنا إلى الموت؟ ورده أبو محمد الأعرابي فيما كتبه عليه، وقال: إنما أراد: إنا نخوض الموت، ونحتمل الشدائد، ولا ننزل تحت الضيم. قال التبريزي بعدما نقل هذا الكلام: هذه الأقوال يقرب بعضها من بعض، وكلها ترجع إلى معنًى واحد، وليس فيها ما يرد. وقوله: فازجر حمارك إلى آخره، هكذا في جميع الروايات بالفاء، وقد سقطت من رواية الشارح المحقق تبعاً لرواية سيبويه: اردد حمارك في إسقاط الفاء. ورتعت الماشية رتعاً، من باب نفع، ورتوعاً: رعت كيف شاءت. والروضة: الموضع المعجب الزهور. قيل: سمي بذلك لاستراضه المياه المسائلة إليها، أي: لسكونها بها. وأراض الوادي واستراض، إذا استنقع فيه الماء. كذا في المصباح. وروى سيبويه هذا المصراع: اردد حمارك لا تنزع سويته والرد: الإرجاع. والنزع: السلب. قال الأعلم. والسوية: شيءٌ يجعل تحت البرذعة للحمار، كالحلس للبعير. وكذا أورده الجوهري، وقال: السوية: كساءٌ محشوٌ بثمام ونحوه كالبرذعة، والجمع سوايا. وكذلك الذي يجعل على ظهر الإبل، إلا أنه كالحلقة لأجل السنام، وتسمى الحوية. والحمار والعير بفتح العين المهملة، هما الذكر من الحمير. وكان الظاهر أن يقول وهو مكروب، لكنه أعاد الحمار باسمه الظاهر المرادف له للضرورة. وحسنه وقوعه في جملة مستقلة. قال المرزوقي قوله: ازجر حمارك: هذا مثلٌ، والمعنى انقبض عن التعرض لنا، والدخول في حريمنا، ورعي سوامك بروضتنا، فإنك إن لم تفعل ذلك ذممت عاقبة أمرك. وجعل إرسال الحمار في حماهم كنايةً عن التحكك بهم والتعرض لمساءتهم، ولا حمار ثم ولا روض. وقال ابن الأعرابي: اكفف لسانك. وقوله: إذن، قال سيبويه: هو جوابٌ وجزاءٌ، فالابتداء الذي هو جوابه وجزاؤه محذوف مستدلٌ عليه مما في كلامه، كأنه قال: فإنه إن رتع رجع إليك وقد ضيق قيده، أي ملىء قيده فتلاً حتى لا يمشي إلا بتعب. كأنه يضرب ويستعمل حتى يرم جسمه، ويؤدي الوجع منه إلى موضع حافره، فيضيق عليه القيد. وكذا قال ابن الأنباري عن الضبي: إن المكروب الشديد الفتل، يقال: قد كرب حبله، إذا شد فتله، كأنه من قولهم: فلان مكروبٌ، أي: ممتلىءٌ غماً. وكذلك الحبل ممتلىءٌ فتلاً. والمعنى: انته عنا، وازجر نفسك عن التعرض لنا، وإلا رددناك مضيقاً عليك ممنوعاً من إرادتك. وقال التبريزي: يقول: اكفف شرك عنا. وجعل الحمار كنايةً عن الأذاة، وعن رجلٍ من أصحاب هذا المخاطب يتعرض لهم بالمكاره. وهذا نحوٌ من قول النابغة: الطويل سأمنع كلبي أن يريبك نبحه *** وإن كنت أرعى مسحلان فحامرا والعرب تكني بالحمار والعير في أنحاء الكلام، فيقولون: قد حل حماره وعيره بمكان كذا، إذا أقام فيه وتمكن. وقوله: وقيد العير إلخ، أي: مدانى مضيق حتى لا يقدر على الخطو. ونقل النمري في شرحه عن الباهلي صاحب كتاب المعاني أن المكروب من كربت الشيء، إذا أحكمته فأوثقته. ومعنى البيت إنا نرد الحمار مملوءاً قيده فتلاً، كما يمتلىء الإنسان كرباً. وحكى ثعلبٌ عن ابن الأعرابي في قوله: فازجر حمارك، أي: اكفف لسانك. وقال يعقوب: هذا مثل، يقول: رد أمرك وشرك عنا ولا تعرض لنا، فإن لا تفعل يرجع عليك أمرك مضيقاً. هذا كلامه. ورد عليه أبو محمد الأعرابي فيما كتبه عليه، وقال: هذا موضع المثل: عيٌّ ناطقٌ أعيا من عيٍّ ساكت . لو سكت أبو عبد الله عن تفسير هذا البيت لكان أولى به. سألت أبا الندى رحمه الله عن معناه، فقال: قوله: ازجر حمارك، يعني فرس زيد الفوارس، واسمه عرقوب فكنى عنه بالحمار على سبيل التهكم والهزء. قال: وبعد البيت ما يدلك على ذلك، وهو: ولا يكونن كمجرى داحسٍ لكم ....... البيت قال: وقوله: وقيد العير مكروب، أي: إنهم يعقرونه. والعقر أضيق القيود. وجعل القعقاع بن عطية الباهلي العقر عقالاً، فقال: الطويل فخر وظيف القرم في نصف ساقه *** وذاك عقالٌ لا ينشط عاقله انتهى. وقوله: إن يدع زيد بني ذهل إلخ، قال المرزوقي: يقول: إن غضب بنو ذهلٍ لزيد، وامتعضوا من ضيمٍ يركبها، فأغاثوها إذا استجارت بهم، غضبنا نحن لزرعة، وانتقمنا له، ممن يهتضمه، إن الفضل معدود. والمعنى: إنه لا فضل لكم علينا، فقد عددنا ما لكم ولنا فلم نجد زيادةً لكم توجب لكم التعلي والتغلب. وإذا كان الأمر بيننا على التساوي فلا استبداد ولا احتكام. وروى: إن القبص محسوب بكسر القاف وسكون الموحدة وآخره صاد مهملة، وهو العدد الكثير، ويكون الكلام مثلاً. ويقال: إنهم لفي قبص العدد، وفي قبص الحصا: في أكثر ما يستطاع عدده من كثرته. والمراد أن الأعداد الكثيرة تضبط وتحصر، فكيف ما بيننا من تقارب وتفاضلٍ، وتساوٍ وتعادل. وقوله: ولا يكونن كمجرى داحس إلخ، قال المرزوقي: كان التنازع بينهم في رهانٍ وقع على عرقوب، وهو فرسٌ لهم، فيقول: لا يكونن جري عرقوبٍ عليكم في الشؤم. كجري داحس في غطفان، غداة شعب الحيس. فقوله: عرقوب ارتفع على أنه اسم ولا يكونن، وقد حذف المضاف منه، أي: لا يكونن مجرى عرقوب كمجرى داحس. وغداة ظرفٌ لمجرى. وجعل النهي في اللفظ لعرقوب وهو في المعنى لهم. حذرهم استعمال اللجاج، ليلاً يتأدى الأمر إلى مثل ما تأدى في رهان داحسٍ والغبراء. ومثل هذا في النهي قولهم: لا أرينك ها هنا. انتهى. ولم يذكر أحد قصة هذه الأبيات. وعبد الله بن عنمة، بفتح العين المهملة والنون والميم. والعنمة في اللغة: واحدة العنم، وهي قضبانٌ حمرٌ تنبت في جوف السمرة، تشبه بها البنان المخضوبة. وقيل: هي أطراف الخروب الشامي. ويقال: هو دودٌ أحمر يكون في الرمل يشبه به. ويقال: بل هو شيءٌ ينبت ملتفاً على الشجر يبدو أخضر ثم يحمر. وعبد الله هذا شاعرٌ إسلاميٌّ مخضرم، وذكره ابن حجر في القسم الأول، في ترجمة عبد الله بن عنمة المزني، وهو صحابيٌ، ولم يفرد الضبي بترجمة في قسم المخضرمين من الإصابة. والظاهر أنه من المخضرمين. وهذه عبارته في ترجمة المزني. وفي الشعراء ممن له إدراكٌ: عبد الله بن عنمة الضبي. قال ابن ماكولا شهد القادسية. انتهى. وهو من بني غيظ بن السيد، بكسر السين المهملة. وهذا نسبه من الجمهرة: عبد الله بن عنمة بن حرثان بن ثعلبة بن ذؤيب ابن السيد بن مالك بن بكر بن سعد بن ضبة. وأما زيد الفوارس الذي ذكره أبو محمد الأعرابي فهو شاعرٌ فارسٌ جاهليٌّ من بني ضبة، وقد ذكرنا ترجمته في الشاهد السابع والثمانين بعد المائة. وهو ابن حصين ابن ضرار بن عمرو بن مالك بن زيد بن كعب بن بجالة. إلى آخر النسب. وأنشد بعده: وهو من شواهد س: الطويل لئن عاد لي عبد العزيز بمثله *** وأمكنني منها إذن لا أقيلها على أن إذن لا تعمل في المضارع الذي يقع جواباً للقسم الذي قبلها، كما في البيت. فإذن مهملة لعدم التصدر، ولا أقيلها مرفوعٌ، وهو جواب القسم المذكور في بيت قبله، وهو: حلفت برب الراقصات إلى منًى *** يغول الفيافي نصها وزميلها واللام في لئن هي اللام المؤذنة، ويقال لها الموطئة، لأنها آذنت، أي: أعلمت ووطأت أن الجواب للقسم المذكور، جرياً على المألوف المشهور في اجتماع الشرط والقسم، أن يكون الجواب للسابق منهما، وجواب المؤخر محذوفٌ لسد المذكور مسده. قال سيبويه: ومن ذلك: والله إذا لا أفعل، من قبل أن أفعل معتمد على اليمين، وإذن لغو. وقال كثير عزة: لئن عاد لي عبد العزيز بمثله ....... .....والبيت قال الأعلم: الشاهد فيه إلغاء إذن ورفع لا أقيلها اعتماداً على القسم المقدر في أول الكلام. والتقدير: والله لئن عاد لي بمثلها لا أقيلها. وكذا صنع الشاطبي في شرح الألفية، وقال: إن جملة لا أقيلها جواب القسم: قال: مثله قول الآخر: الطويل لئن نائبات الدهر يوماً أدلن لي *** على أم عمروٍ دولةً لا أقيلها وهذا البيت من الحماسة. قال ابن جني في إعرابها: رفعه لا أقيلها يدلك على أنه معتمد لليمين، وأن اللام في لئن ليست الجواب للقسم في البيت الذي قبله. ولا يصح هنا جعل الجملة جواباً للشرط، وإلا قيل لا أقلها بالجزم فإن المضارع المنفي بلا ولم، يجزم شرطاً وجواباً ولم يفتقر إلى الفاء. وزعم ابن هشام في المغني أن جملة لا أقيلها جواب إن. قال فيه: والأكثر أن تكون إذن جواباً لإن ولو، ظاهرتين ومقدرتين. فالأول كقوله: لئن عاد لي عبد العزيز بمثله ....... ..البيت واعترض عليه الدماميني في الحاشية الهندية بأنه مخالفٌ للقاعدة المشهورة، وهي أن القسم والشرط متى اجتمعا فالجواب للسابق منهما، واللام مصاحبة لقسمٍ مذكور في بيتٍ قبلها، فالجواب للقسم السابق لا للشرط اللاحق، ولهذا لم يجزم الفعل. وإلا فلو كان للشرط لجزم. انتهى. وما ذكره من القاعدة في اجتماعهما هو ما نظمه ابن مالك في الألفية، وقال: واحذف لدى اجتماع شرطٍ وقسم *** جواب ما أخرت فهو ملتزم ولم يذكر الشاطبي في شرحه خلافاً في هذا. وبه تعلم سقوط قول ابن الملا في شرح المغني: إطلاق أن إذن جوابٌ مجاز، فلا يرد أن رابط هذا الشرط، إنما هو الفاء وإذا الفجائية، ليقال: أراد بكونها حرف جوابٍ أنها تختص به، وإن لم تكن رابطةً له بالشرط. والاعتراض بأن ما ذكره مخالفٌ للقاعدة، فالجواب أن التمثيل هنا ليس على المشهور، بل على رأي ابن مالك، كما هو مذهب الفراء، من جعل الجواب للشرط المتأخر. هذا كلامه إن كان له. وقد عرفت أن الجواب لو كان للشرط، لجزم، ولم يحتج للفاء وإذا. وأغرب من هذا قول العيني: لا أقيلها: في موضع جزم على جواب الشرط، وعملت إن في الموضع دون اللفظ. والاستشهاد في إذن حيث ألغيت لوقوعها بين القسم والجواب، وهما: حلفت، ولا أقيلها. انتهى. تتمة قال أبو علي في المسائل البغدادية: ذكر سيبويه لئن أتيتني لأفعلن، وما أشبهه نحو قوله تعالى: {ولئن جئتهم بآية ليقولن الذين كفروا ، فزعم أن الذي يعتمد عليه اليمين، اللام الثانية، فاعتل أبو إسحاق لذلك في كتابه في القرآن عند قوله تعالى: {ولقد علموا لمن اشتراه بأن قال: إن اللام الثانية هي لام القسم في الحقيقة، لأنك إنما حلفت على فعلك لا على فعل غيرك في قولك: والله لئن جئتني لأكرمنك. وهذا الذي اعتل به فاسدٌ جداً ضعيف، وذلك أنه لو قال: والله لئن جئتني ليقومن عمرو، لكان الذي يعتمد عليه القسم اللام الثانية مع أن الحالف، لم يحلف على فعل نفسه، وإنما حلف على فعل غيره. فهذا عندي بين الفساد. ولكن مما يدل على أن الاعتماد على اللام الثانية، وما يقوم مقامها مما يتلقى به القسم قول كثير: لئن عاد لي عبد العزيز بمثله ....... ..البيت فلو كان الاعتماد على اللام في لئن دون لا أقيلها، لوجب أن ينجزم الفعل بعد لا في الجزاء، فلما ارتفع الفعل الذي هو لا أقيلها، علمت أن معتمد اليمين إنما هو على اللام الثانية، وما أشبه اللام. فمن هنا تعلم أن الاعتماد على الثانية لا من حيث ذكر. والبيت من قصيدة لكثير عزة، يمدح بها عبد العزيز بن مروان ويتصل به من قبل أبيات، وهي: وإن ابن ليلى فاه لي بمقالةٍ *** ولو سرت فيها كنت ممن ينيلها عجبت لتركي خطة الرشد بعدم *** بدا لي من عبد العزيز قبولها وأمي صعبات الأمور أروضه *** وقد أمكنتني يوم ذل ذلولها حلفت برب الراقصات إلى منى *** يغول البلاد نصها وزميلها لئن عاد لي عبد العزيز ....... البيت فهل أنت إن راجعتك القول مرةً *** بأحسن منها عائدٌ فمقيلها قال ابن هشام اللخمي في شرح أبيات الجمل: ذكر أهل الأخبار أن كثيراً لما دخل على عبد العزيز فأنشده قصيدته التي ألحق فيها البيت المستشهد به مع الأبيات المتقدمة، أعجب بقوله فيها: الطويل إذا ابتدر الناس المكارم بذهم *** عراضة أخلاق ابن ليلى وطولها فقال: حكمك يا أبا صخر. قال: فإني أحكم أن أكون مكان ابن رمانة. وكان ابن رمانة كاتب عبد العزيز وصاحب أمره. فقال له عبد العزيز: ترحاً لك! ما أردت ويلك، ولا علم لك بخراجٍ ولا كتابة؟ اخرج عني! فخرج كثير نادماً على ما حكم، ثم لم يزل يتلطف، حتى دخل عليه، فأنشده: عجبت لتركي خطة الرشد .....الأبيات فلما أتى إلى قوله: فهل أنت إن راجعتك القول مرةً ....... البيت قال له عبد العزيز: أما الآن فلا، ولكن قد أمرنا لك بعشرين ألف درهم. فقوله في البيت: لئن عاد لي عبد العزيز بمثلها، أي: بمقالةٍ مثلها، وهي قول عبد العزيز له: حكمك. وقوله: إذن لا أقيلها، أي: أطلب منه ما لا اعتراض علي فيه ولا قدح. هكذا فسره العلماء، وهو الصحيح. وما قاله ابن سيده، أن عبد العزيز بن مروان كان أعطاه جاريةً فأبى كثير من قبولها، ثم ندم بعد ذلك فيقول: لئن عاد لي بجارية مثلها مرة أخرى لا أقيلها، غلط. وهو قياسٌ منه، والصحيح ما تقدم. وممن حكى هذا ابن السيد في شرح أبيات الجمل قال: وقيل بل عرض عليه، أن يهب له جارية، ويترك التغزل بعزة، فأبى من ذلك، ثم ندم على ما فعل فقال هذا الشعر. ولم يذكر الجاحظ في البيان والتبيين إلا الوجه الأول، قال فيه: ومن الحمقى كثير عزة. ومن حمقه أنه دخل على عبد العزيز بن مروان، فمدحه بمديحٍ استجاده، فقال له: سلني حوائجك. قال: تجعلني في مكان ابن رمانة. قال: ويلك ذاك رجلٌ كاتب، وأنت شاعر! فلما خرج، ولم ينل شيئاً، قال في ذلك: عجبت لتركي خطة الرشد..........الأبيات المتقدمة وقوله: وإن ابن ليلى فاه لي بمقالة إلخ، قال السيرافي: أراد بمثل المقالة المذكورة في هذا البيت. والمعنى ممن ينيلهوها. والعائد إلى من هو ضمير المذكور المنصوب المحذوف، وضمير المؤنث للمقالة. وفي ينيلها ضمير فاعل لابن ليلى، والمعنى ينيله ابن ليلى إياها، أي: لو سرت في طلبها. وقال الأندلسي: فإن قلت: كيف ينيله المقالة؟ قلت: يريد المقالة فيه. قال ابن المستوفي: وهذا قولٌ غير مشكل، لأن عبد العزيز حكمه، ولا نيل أوفى من أن يحكم المسؤول سائله، أي: لو طلبتها من عبد العزيز لعاد لي بمثلها محكما، فكنت ممن ينيله عبد العزيز إياها، على ما ذكره السيرافي. وقوله: ولو سرت فيها، أي: لو رحلت لأجلها، أي: لطلبها. وقوله: عجبت لتركي إلخ، الخطة، بالضم: الأمر والقصة. وأراد بخطة الرشد تحكيم عبد العزيز إياه، فيما يطلب. وفسرها العيني وتبعه السيوطي بخصلة الهداية. وهذا معناها اللغوي، ولم يذكر المراد منها. وعبد العزيز هو عبد العزيز بن مروان بن الحكم، والد عمر بن عبد العزيز أمير مصر، وولي العهد بعد أخيه عبد الملك من أبيهما مروان. وقول الدماميني: هو أحد الخلفاء الأمويين، ينبغي حمله على ولاية العهد، وإلا فهو لم يل الخلافة أصلاً. لكن يبقى عليه أن الصحيح أن خلافة مروان غير صحيحة، وأنه خارجٌ على ابن الزبير باغٍ عليه، فلا يصح عهده إلى ولديه. ولما ملك مروان الشام سار إلى مصر، وغلب عليها، واستخلف عليها ولده عبد العزيز، فبقي أميرها إلى أن مات سنة خمس وثمانين، عند الأكثر. حكي عنه أنه رجلاً دخل عليه يشكو صهراً له، فقال: إن ختني فعل بي كذا وكذا. فقال له: ومن خنتك؟ وفتح النون. فقال: ختنني الختان الذي يختن الناس. فقال عبد العزيز لكاتبه: ما هذا الجواب؟ فقال: إن الرجل يعرف النحو، وكان ينبغي أن تقول: من ختنك؟ بضم النون. فقال: والله لا شاهدت الناس حتى أعرف النحو، وأقام في بيته جمعةً لا يظهر، ومعه من يعلمه العربية، ثم صلى بالناس الجمعة الأخرى وهو من أفصح الناس. وقوله: وأمي صعبات إلخ، الأم بفتح الهمزة وتشديد الميم: القصد، مصدرٌ مضاف إلى فاعله، ومفعوله الصعبات بسكون العين. وأروضها: أذللها. والذلول، بالفتح: السهل المنقاد. وقوله: حلفت برب الراقصات إلخ، قال ابن السيرافي: الرقص. ضرب من الخبب في العدو. وحلف برب الإبل التي يسار عليها إلى الحج. وتغول البلاد: تقطعها. والنص والذميل: ضربان من العدو. وقوله: لئن عاد لي عبد العزيز، الضمير في قوله بمثلها راجعٌ لمقالة عبد العزيز، وهي: حكمك، وسلني حوائجك. ويجوز أن يرجع لخطة الرشد التي هي عبارةٌ عن مقالة عبد العزيز. ولم يذكر غيره العيني. ويؤيده قول الزمخشري: منها أي من الخطة. لا أقيلها، أي: العثرة. والعثرة غير مذكورة في الكلام، وإنما أعاد الضمير عليها لفهمها من المقام. والإقالة: الرد. وفي الدعاء يقال: لا أقال الله عثرته! قال ابن المستوفي وبعض فضلاء العجم في شرح أبيات المفصل: ويروى: لا أفيلها بالفاء، أي: لا أفيل رأيه فيها، وفي التأخر عنه والتثبط عن تنجيز ما وعدني به. يقال: فال يفيل فيلولة، إذا ترك الرأي الجيد وفعل ما لا ينبغي للعقلاء أن يفعلوه. فالفيلولة: ضعف الرأي. وهذه الرواية هي المناسبة. والله أعلم. وترجمة كثير عزة تقدمت في الشاهد الثالث والسبعين بعد الثلثمائة. وأنشد بعده:
|